من خلال توظيف المفهوم الخلدوني عن النشأة المستأنفة، بمعنى القطيعة والاستمرارية معاً، يسلط هذا الكتاب ضوءاً باهراً على عملية إعادة تأسيس الإسلام القرآني في إسلام حديثي، طرداً مع التحوّل من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، ومن إسلام "أم القرى" إلى إسلام الفتوحات.
والخطورة لا تكمن فقط في هذه النقلة في المرجعية من القرآن إلى الحديث، بل أيضاً في تحوّل المكلّف في الإسلام إلى ما يشبه الإنسان الآلي الذي لا يتحرّك إلا بالنصوص التي تتحكم بشؤون حياته العامة والخاصة. فمع فرضية الشافعي القائلة بأن الرسول لا ينطق إلا عن وحي حتى عندما لا ينطق بالقرآن، أُنزلت الأحاديث التي وُضعت على لسان الرسول بعد وفاته منزلة الوحي، وتوافق أهل الحديث والفقه على اعتبار السنّة، كالقرآن، تشريعاً إلهياً متعالياً. وككل ما هو إلهي ومتعالٍ، تحرّرت السنّة وأحكامها من شروط المكان والزمان.وهذا ما حكم على العقل العربي الإسلامي بالانكفاء على نفسه وبالمراوحة في مكانه في تكرار لا نهاية له؛ وهذا أيضاً ما سدّ عليه الطريق إلى اكتشاف مفهوم التطوّر وجدلية التقدّم وما يستتبعانه من تغيّر في الأحكام الوضعية ذات المصدر البشري لا الإلهي؛ وهذا ما أسّسه أخيراً في ممانعة للحداثة تنذر في يومنا هذا بالتحوّل إلى ردّة نحو قرون وسطى جديدة.
بهذا الكتاب الذي يرصد الآليات الداخلية لإقالة العقل في الإسلام، يختتم المؤلّف مشروع "نقد نقدِ العقل العربي".
جورج طرابيشي (1939-2016) مفكّر وكاتب وناقد سوري. له مؤلّفات مهمّة في الماركسية، والنظرية القومية، والنقد الأدبي للرواية والقصّة العربية، إضافة إلى ’معجم الفلاسفة‘، ومشروعه الموسوعي الضخم الذي عمل عليه أكثر من 15 عاماً وصدرت منه خمسة مجلّدات في "نقد نقد العقل العربي". من إصداراته عن دار الساقي: ’من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث’، ’المعجزة أو سبات العقل في الإسلام’، ’هرطقات 1 و2‘، ’مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام’.