في إطار فعاليات معرض أبجد الإلكتروني، نسخة لبنان، خصّ الكاتب الأرجنتني ألبرتو مانغويل منصّة أبجد بمقال مؤثّر بعنوان «بيروت في عينَي أمّي» عبّر فيه عن ارتباطه العميق بهذه المدينة.
يذكر أن مانغويل مؤلّف موسوعي مشهود له عالميّاً، صدرت له عن دار الساقي مجموعة مميزة من المؤلّفات، أبرزها: «تاريخ القراءة»، «المكتبة في الليل»، «فنّ القراءة»، «الفضول»، وغيرها.
المقال كاملاً:
بيروت في عينَي أمّي
ألبرتو مانغويل
ترجمة: رولا عادل رشوان
أملك صورة لأمي، التُقطت في بيروت عام 1949، ترتدي فيها فستاناً أبيض وتمسك قبعتها بيدها اليسرى (لا بدّ أنّ رياحاً ما كانت تهبّ على الكورنيش آنذاك). يحدّق فيها رجلٌ من مدخل ما، وفوقَه أستطيع قراءة لافتة تحمل كلمة "ESSAI". تبتسم أمي في الصورة. على البعد، تحت شجرة ضخمة، يمكنني أن أتبيّن مطعماً زرته ذات مرّة حين زرت بيروت للمرة الأولى عام 2004. أعتقد أنه المطعم نفسه، لكني لست واثقاً بشأن هذا.
عندما أنظر إلى الصورة، تخطر على بالي ثلاثُ صور للمدينة. المدينة الأولى هي تلك التي وصفَتها لي أمي مرات عديدة. فقد زارت باريس وروما والبندقية، وظلّت تؤمن أبداً بأنه لا توجد مدينة جميلة وأنيقة ومرحِّبة مثل بيروت. بعد سنوات، وكلما ساءت الأمور في بوينس آيرس (وكانت تسوء كثيراً في الواقع)، اعتادت أمي أن تشتكي وتهزَّ رأسها، وبدلاً من تكرار «موسكو، موسكو!» كما إحدى شقيقات تشيخوف الثلاث، كانت تتنهّد قائلةً: «بيروت، بيروت!»، وكأن حياتها كانت لتختلف لو بقيَت هناك في تلك الجنّة. ربما كانت ستختلف، لأن بيروت كانت بالنسبة إليها ضرباً مستحيلًا. والأشياء المستحيلة غالباً ما تكون مثالية.
أما المدينة الثانية فهي التي زرتها بنفسي عام 2004. تأثرت كثيراً بحفاوة الناس هناك، ولطفهم غير العادي، والتحول المستمر في اللهجة نتيجةً لتنوّع الثقافات، ونبرة الفخر وشعور الأمان الذي راودهم لرؤية مدينتهم تُبنى من جديد بعد الحرب - حربٌ مضت وأخرى تلوح في الأفق - وشجاعتهم في إظهار ندوب الحرب من غير خجل، وإيمانهم الراسخ المشترك بأهمية الشعر والموسيقى والطعام الجيد والمحادثات الذكية. تأثرت بكلّ هذا وقد تركَ في نفسي، بعد أن عدت إلى بلادي، شوقاً أصيلاً مفاجِئاً إلى الحضارة البديعة التي خبرْتُ هناك.
أما المدينة الثالثة فهي تلك المدينة المحاصرة التي أراها الآن في نشرات الأخبار المسائية. كأيّ مدينة مدمرة، أظهرت بيروت حينها صورة للمعاناة الشخصية اليومية التي لا يمكن حتى وصفها. كانت بيروت صورة لكل مدينة عانت عوار الحرب ذات يوم، مدينة انهارت فيها جدراناً استغرق بناؤها وقتاً طويلاً جداً، مدينة يقف فيها شخصٌ ما أمام سقف منهار يرقد تحته أخ أو أخت أو صديق أو أبٌ أو ابن، فيما يركض الجنود في كل مكان في خلفية المشهد.
لكنّي أظنّ أن هناك بيروت رابعة، تلك التي لم تصنع من حجارة أعيد بناؤها أو من حجارة تهدّمت، بل تلك التي صنعت من ذكريات باقية، أو من ذكرى تخلّدت إلى الأبد عبر العديد من الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، مثل الصورة التي تبدو فيها أمي سعيدة.
لديّ تفسير معقول لهذا الاعتقاد.
أرى أن أكثر بل أهمّ ما يثير مشاعر قارئي «الإلياذة» هذه الأيام هو إداركهم المفاجئ بأن المأساة المروية مأساةٌ مشتركة، على الرغم من صوت الراوي الإغريقي. صحيحٌ أنّ ذريعة الصراع هي اختطاف (هيلين على يد باريس) وأن القوات المتحالفة، تحت إصرار أقوى أمراء الحرب (أجاممنون)، قد وافقوا على مواصلة الحصار والقتال حتى استعادة ممتلكاتهم، ولكن، كما تحكي القصيدة بوضوح شديد، فالعواقب المروّعة للحرب قد أصابت الجانبين دون شكّ، وأن كلّاً من باتروكلوس اليوناني وهيكتور الطروادي كانا ضحية لوحشية الحرب. شعر مؤلف (أو مؤلفو) الإلياذة حين كتابتها أن ولاء يدفعه (أو يدفعهم) باتجاه الطرفين.
تمنحنا الصور التي علقت بذاكرتنا، أو تلك الفوتوغرافية، سياق اللحظة وتؤرخ ما نراه ونؤمن به. في أحد الأجزاء الأخيرة لـ«الإلياذة»، يركض أخيل القاتل وراء هيكتور لأنه قتل صديقه باتروكلوس. كلاهما جنديّ، وكلاهما ملطّخ بالدماء، وكلاهما لديه أحبّاء قُتلوا في المعركة، وكلاهما يعتقد في عدالة قضيته. أحدهما إغريقي، والآخر من طروادة، ولكن في هذه المرحلة لا يهمّ لمن يكون ولاؤهما؛ في هذه اللحظة هما فقط رجلان عازمان على قتل بعضهما. يركضان عبر أسوار المدينة، عبر ينابيع نهر سكاماندر. وعند هذه النقطة، يتوقف هوميروس عن وصف القتال لتذكيرنا:
«وعند تلك العيون غدران ماءٍ،
سُوّيت بالحفر بين الصخور الجُرد،
وهي عريضة سهلة المنال
حيث كانت نساء طروادة وبناتُها
يغسلن فيها ثيابهنّ اللامعة،
في أيام السلم، قبل أن يجتاح الآخيون الأرض...
فمَرّوا بها مُسرعين».
في الصورة التي التقطتها والدتي لنفسها في بيروت، وفي بيروت التي تتعرض في هذه اللحظة للتدمير الوحشي، ما زال الجميع يمرّون بالمدينة مسرعين.